فصل: تتمّة: في الأوامر والنواهي التي قرن بها العذاب الأخروي والنعيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأمّا الموحّدون ومن يكون فعله تابعا للأمر الإلهي الكلّي والجزئي المعيّن، فإنّ صور أفعاله تنصبغ- كما قلنا- بصفة علمه، ويسري فيها روح قصده، ويحفظها الحقّ عليه من حيث رحمته وإحصائه بموجب حكم ربوبيّته.
فإن غلب على الفعل حكم العناصر وصورة النشأة العنصريّة، انحفظت في سدرة المنتهى، منبع الأوامر الشرعيّة الباعثة على الفعل فإنّها غاية العالم العنصري ومحتد الطبيعة من حيث ظهورها بالصور العنصرية، فجعلها الحقّ غاية مرتقى الآثار العنصريّة فإنّ أفعال المكلّفين بالنسبة الغالبة نتيجة الصور والأمزجة المتولّدة من العناصر والمتركّبة منها، فلهذا لم يمكن أن يتعدّى الشيء أصله، فما من العناصر لا يتعدّى عالم العناصر، فإن تعدّى فبتبعيّة حقيقة أخرى تكون لها الغلبة إذ ذاك والحكم، فافهم.
فإن خرقت همّة الفاعل وروحانيّته عالم العناصر بالغلبة المذكورة- لاقتضاء مرتبته ذلك وحاله- تعدّى إلى الكرسي وإلى العرش وإلى اللوح وإلى العماء بالقوّة والمناسبة التي بينه وبين هذه العوالم، وكونه نتيجة من سائرها، فانحفظ في أمّ الكتاب إلى يوم الحساب.
فإذا كان يوم الفصل، انقسمت أفعال العباد إلى أقسام:
فمنها: ما تصير هباء منثورا، وهو الاضمحلال الذي أشرت إليه.
ومنها: ما يقلبها إكسير العناية والعلم بالتوحيد أو به وبالتوبة، فيجعل قبيحها حسنا، والحسن أحسن، فتصير التمرة كأحد، ويوجر من أتى معصية جزاء من أتى مثلها من الحسنات بالموازنة، فالقتل بالإحياء، والغصب بالصدقة والإحسان ونحو ذلك.
ومنها: ما يعفو الحقّ عنه ويمحو حكمه وأثره.
ومنها: ما إذا قدم الفاعل عليه، وفّاه له مثلا بمثل خيرا كان أو ضدّه.
ونموّ الجميل من الفعل وغلبته الظاهرة بصورة الترجيح تارة، وبالحكم الماحي تارة أخرى راجع إلى العناية والعلم الشهودي التامّ مع الحضور وسبق الرحمة والشفاعة المختصّة بالتوحيد والإيمان، المتفرّعة في الملائكة والرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنين، والآخريّة للعناية السابقة المضافة إلى الحقّ آخرا من كونه أرحم الراحمين.
ومن الأفعال ما يكون حكمها في الآخرة هو كسر سورة العذاب الحاصل من نتائج الذنوب، وقبائح الأفعال.
ومن الأفعال ما يختصّ بأحوال الكمّل، ونتائجها خارجة عن هذه التقاسيم كلّها، ولا يعرف حكمها على التعيين إلّا أربابها، والواصل من الحقّ في مقابلتها إلى من ظهرت به لا يسمّى جزاء ولا معاوضة.
وتسمية المحقّق مثل هذا جزاء وأجرا إنّما هي من حيث إنّ العمل المشروع يستلزم الأجر لكونه ناتجا عنه وظاهرا به، كما أنّ الإنسان شرط في ظهور عين العمل في الوجود، وتلك سنّة إلهيّة في هذا ونحوه، لا أنّ هذا النوع من الجزاء يطلب من ظهر منه العمل أو به غير أنّه لمّا لم يكن العمل يقتضي لذاته قبول الأجر والانتفاع به لأنّه نسبة لا أمر وجودي، أعاده الحقّ بفضله على من أضيف إليه ذلك الفعل ظاهرا من أجل ظهوره به وتوقّف وجوده عليه، ولاستحالة عوده من هذا الوجه على الحقّ، فإنّه كامل الغنى يتنزّه ويجلّ أن يعود من خلقه إليه وصف لم تكن ذاته من حيث هي مقتضية لذلك. وسرّ الأمر أنّ المطلوب من كلّ مرتبة من مراتب الوجود وبها وفيها ليس غير الكمال المختصّ بتلك المرتبة ومظاهرها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وللأفعال والأعمال مرتبة، ولها بداية وكمال، فمبدؤها الحركة الحبّية والتوجّه الإرادي الكلّي، المتعلّق بظهور الكمال الذي سبق التنبيه عليه عند الكلام على سرّ الإيجاد وبدئه.
وكمالها هو ظهور نتائجها التي هي غاية كلّ فعل وعمل.
فكمال الأعمال ونتائجها إنّما يتمّ حصوله بصدورها عن الحضرة الذاتيّة الغيبيّة، وبروزها إلى مرتبة الشهادة التي هي محلّ سلطنة الاسم الظاهر الذي هو مرآة الاسم الباطن ومجلاه ومقام نفوذ حكمه، فإذا كملت في مرتبة الشهادة بظهور امتياز نتائجها عنها وتبعيّتها لها، عاد الأمر كلّه إلى الحقّ مفصّلا على نحو امتيازه عنده في حضرة علمه أزلا، مع أن لا فاعل سواه، لكن توقّف ظهور الأفعال على العباد وإن كانوا من جملة الأفعال، فالأفعال إنّما تنسب إليهم في الحقيقة من حيث ظهورها بهم، لا أنّهم الفاعلون لها.
وهكذا حكم الصفات التي توهّم الاشتراك بين الحقّ والخلق، على اختلاف أحكامها ومراتبها، فافهم وتذكّر ما سبق ذكره في سرّ الغذاء وصوره وكونه شرطا في التوصيل وظهور التفصيل لا غيره، وكذلك ما نبّهت عليه من النكت المبثوثة الكاشفة لهذا السرّ فإنّك تستشرف على أسرار جليلة، عظيمة الجدوى، واللّه المرشد.
وصل من هذا الأصل:
اعلم، أنّ كلّ فعل يصدر من الإنسان من أفعال البرّ، ويقصد به أمرا مّا غير الحقّ- كائنا ما كان- فهو فيه يعدّ من الأجراء لا من العبيد.
ومتى صدر منه الفعل المسمّى برّا أو عملا صالحا، ولا يقصد به أمرا بعينه، بل يفعله لكونه خيرا فقط، كما سبقت الإشارة إليه، أو لكونه مأمورا بفعله ويكون مطمح نظره في العمل الأمر ولكن ليس لكونه أمرا مطلقا، بل من حيث الحضور فيه مع الآمر، فهو الرجل، فإن ارتقى بحيث أن لا يقصد بما يعمله غير الحقّ كان تامّا في الرجوليّة، فإن تعدّى هذا المقام بحيث يتحقّق أنّه لا يفعل شيئا إلّا بالحقّ، كما ورد في الحديث: «فبي يسمع، وبي يبصر وبي يبطش، وبي يسعى» كان تامّا في المعرفة والرجوليّة.
فإن انضمّ إلى ما ذكرنا حضوره مع الحقّ من حيث صدور أفعاله من العبد وبالعبد، ويتحقّق ذلك ويشهده بعين الحقّ لا بنفسه، من حيث إضافة الشهود والفعل والإضافة إلى الحقّ لا إلى نفسه، فهو العبد المخلص المخلص.
فإن ظهرت عليه أحكام هذا المقام والمقام الذي- وهو مقام «فبي يسمع، وبي يبصر»- وغيرهما من المقامات غير متقيّد بهما ولا بمجموعهما، مع سريان حكم شهوده الأحدي على النحو المشار إليه في كلّ مرتبة ونسبة، دون الثبات على أمر بعينه، بل يكون ثابتا في سعته وقبوله كلّ وصف وحكم، مع عدم تقيّده بمرتبة دون غيرها، عن علم صحيح منه بما اتّصف به وما انسلخ عنه في كلّ وقت وحال، دون غفلة ولا حجاب، فهو الكامل في العبوديّة والخلافة والإحاطة والإطلاق. حقّقنا اللّه وسائر الإخوان بهذا المقام المطلق، والحال المحقّق بمنّه وفضله.
وصل من هذا الأصل:
اعلم، أنّ الأحكام الأصليّة المشروعة- أعني الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة- منسحبة على سائر أفعال المكلّفين، فلا يمكن أن يصدر من المكلّف فعل من الأفعال- كائنا ما كان- ولا أن يكون في حال من الأحوال إلّا وللشرع فيه حكم من إحدى هذه المراتب الخمس وسواء كان الفعل ممّا تعيّنت له صورة في الأوامر والنواهي المشروعة، كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} وكقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} وغيرهما من الأمور المعيّنة بالذكر والمقيّدة بالشرط، كالحال والوقت ونحوهما من الشروط. أو كانت مندرجة الذكر في ضمن أصل كلّي شامل الحكم، مثل قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} إلى آخر السورة، وكقوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وكقوله عليه السّلام: «في كلّ ذي كبد رطبة أجر» ونحو ذلك ممّا أجمل ذكره في الكتاب العزيز والأحاديث النبويّة.
ومبدأ ظهور جميع الأفعال، الإنسانيّة من حيث نشأته الطبيعيّة العنصريّة وهو باطن القلب، لكن شروع الفاعل في فعل أيّ أمر كان، متوقّف على داعية تتشخّص في قلبه، تبعثه على بعض الأفعال، وترجّحه على غيره من الأفعال وعلى الترك.
وتشخّص هذه الداعية في القلب، وتعيّن البواعث الموجبة لصدور الأفعال من الفاعلين، إنّما تخرج من القلب، وتتفرّع أحكامها وتنفذ في الجوارح، ثم إلى غيرها بحسب وجوه القلب الآتي ذكرها، وبحسب ما اتّصف به القلب حال الشروع من الصفات المتعيّنة فيه من غيب الذات، والظاهرة الغلبة عليه بواسطة إصبعي الرحمن أو اللمّتين أو ما نزل عنهما من الأحكام الروحانيّة والنفسانيّة والطبيعيّة، جهل تعيّن حكم كلّ من ذلك أو عرف.
والبواعث والأحكام للوجوه القلبيّة بأجمعها- على اختلاف مراتبها ما عدا الوجه الخاصّ- غايتها أحد أمرين: إمّا جلب المنافع، أو دفع المضارّ عاجلا وآجلا، صورة ومعنى، جمعا أو فرادى، بتعمّل أو بدونه، كما سبق التنبيه عليه، لكن تحت ما ذكرنا أقسام دقيقة لا يعرفها إلّا الأكابر، من جملتها أنّ بعض الأعمال قد يكون حجابا على أحد الأصلين المذكورين، ويقصد من العامل وبدونه، بمعنى أنّه قد يصدر من بعض الناس عمل مّا، فيصير حجابا مانعا من وصول بعض الشرور إليه، أو وصول خير لو لا ذلك الحجاب، لحصل لصاحب العمل، وقد يعلم العامل ذلك، وقد لا يعلمه، وقد يعلم فيما بعد.
وللجزاء أيضا رتبتان كلّيّتان: إحداهما: تقتضي سرعة المجازاة في الدنيا، وعدم تخلّف الجزاء عن الفعل خيرا كان أو ضدّه. والرتبة الأخرى: قد تقتضي تخلّف الجزاء وتأخيره إلى أجل معلوم عند اللّه في الآخرة، كما نبّه عليه من قبل وعلى بعض ما يختصّ به من الأحكام والأسرار.
فمن الجزاء الخاصّ في الخير المنبّه عليه في الإخبارات النبويّة هو أنّ اتّفاق الكلمة والجمعيّة قرن بينهما درّ الرزق واستقامة الحال في الدنيا، وإن كان القوم الذين هذا شأنهم أهل فسوق. وفي رواية أخرى «صلة الرحم». وفي أخرى: «الدوام على الطهارة». وفي أخرى جمع فقال- عليه الصلاة والسلام-: «إن اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزي بها في الآخرة».
وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، فإذا أفضي إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا، وعيّن صلّى اللّه عليه وآله أيضا في باب السيّئات وعدم تأخير الجزاء عليها بالعقوبة، قطيعة الرحم، والبغي وترك النهي عن المنكر مع التمكّن من ذلك.
والجزاء العامّ السريع في الخير تهيئة واستقامة تحصل للقوى القلبيّة والصفات الروحانيّة والطبيعيّة، فيعقبها انكشاف بعض الحجب وذهاب بعض الموانع الحائلة بين الإنسان وبين إدراك بعض ما في إدراكه، له خير وراحة في عاجل أو آجل، معنويّا كان الخير أو محسوسا، فيحظى من ذلك الخير بمقدار تهيّئه وقبوله وما كتب له منه، دون بطء ولا تأخير بطء والجزاء العامّ السريع في باب المكروه الحرمان الذي يوجبه إمّا حجاب وارد، أو عدم ارتفاع حجاب حاصل في المحلّ حاكم عليه، لو لا ذلك الفعل السيّئ، لانتهى حكمه وخلأ الإنسان منه، أو لعدم حراسة تقي ضرر ما اجتلبه الإنسان إلى نفسه بواسطة الفعل السيّئ وتعرّض له بقبيح العمل.
فهذه الأقسام من نوع الجزاء لا تتأخّر عن الفعل، بل تترتّب عليه عقيب صدوره من العامل.
ويشتمل هذا المقام على أسرار إلهيّة وكونيّة شريفة جدّا لا يشهدها إلّا الأكابر من أهل الحضور والشهود والمعرفة التامّة، ويعلمون من تفاصيلها بمقدار معرفتهم التي يتبعها حضورهم.
ومن هذا المقام يشهد من يكشفه على التمام سرّ الأمر الأحدي الجمعي الإلهي، ثم الرحماني الذي تفرّع منه حكم الإصبعين في إقامة القلب وإزاغته، ثم حكم الإصبعين من كونهما إصبعين، ثم اللمّتين، والأفعال النفسانيّة الطبيعيّة المباحة، التي لا أجر فيها ولا وزر، إلّا إذا ظهرت من الكمّل والأفراد ومن شاء اللّه من المحقّقين الحاضرين مع الآمر حين المباشرة من حيث الأمر، بمعنى أنّه لو لم يبح له مباشرة ذلك الفعل، ما باشره، مع ما أضاف إلى الإباحة بقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ولا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وغير ذلك، قوله صلّى اللّه عليه وآله أيضا: «إنّ اللّه يحبّ أن تؤتى رخصه».
ونحو هذا فإنّ المباشر للمباح، الحاضر مع الآمر أو مع الأمر من كونه أمرا يوجر على كلّ مباح، ويكتب في ارتكابه إيّاه من الطائعين الممتثلين أوامر سيّدهم، وقد ورد ما يؤيّد ما ذكرناه في الحديث الثابت لمّا نبّه عليه السّلام بعض الصحابة عيل هذا السرّ، وأخبره أنّه له في إتيان أهله أجرا، فتعجّب الصحابي من ذلك، فقال ما معناه: ألي في وضع شهوتي أجر؟ فقال عليه السّلام: «نعم، أرأيت لو وضعتها في حرام أكان عليك فيها وزر؟» فقال: نعم، قال: «فكذلك إذا وضعتها في حلال كان لك أجر». أو كما قال عليه السّلام. ويمتاز الكمّل والأفراد فيما ذكرنا عمّن سواهم بحال وحضور وظهور علم زائد على ما نبّهنا عليه يختصّون به، ربما نلوّح بطرف منه فيما بعد، إن شاء اللّه تعالى.

.تتمّة: في الأوامر والنواهي التي قرن بها العذاب الأخروي والنعيم:

متضمّنة كشف سرّ سائر الأوامر والنواهي التي قرن بها العذاب الأخروي والنعيم اعلم، أنّ حاصل سائر الأوامر والنواهي الشرعيّة الواصلة من الحقّ إلى الخلق في كلّ عصر بواسطة رسول ذلك العصر هو التعريف بما تتضمّنه الأحوال والأقوال والصفات والأفعال الإنسانيّة الظاهرة والباطنة، من الخواصّ والثمرات الناتجة عنها، والمتعيّنة صورها في طبقات السماوات والبرزخ والحشر والجنّة والنار وحيث شاء اللّه، إثباتا ومحوا، وضررا ومنفعة، وغلبة ومغلوبيّة، بواسطة اشتراك حكم الرحمة والغضب الإلهيّين موقّت حسّا وخيالا، وروحا ومثالا. فافهم هذا فإنّه من أعزّ الأسرار الإلهيّة المختصّة بالمقام المتكلّم فيه والمترجم عنه.